فصل: الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلي الحضارة

اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول‏.‏ فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصبية وبما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس ولا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة فطور الدولة من أولها بداوة‏.‏ ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف وما تتلون به من العوائد‏.‏ فصار طور الحضارة في الفلك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك‏.‏ وأهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم‏.‏ فأحوالهم يشاهدون ومنهم في الغالب يأخذون ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة‏.‏ فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً وأمثال ذلك‏.‏ فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتفنن فيه مع ما حصل لهم من اتساع العيش والتفنن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثي وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعودي والطبري وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح وركب إليها في السفين وما أنفق في إملاكها وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب‏.‏ فمنه أن الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون فنثر على الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملتوتة على الرقاع بالضياع والعقار مسوغة لمن حصلت في يده يقع لكل واحد منهم ما أداه إليه الاتفاق والبخت وفرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة ألاف وفرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك بعد أن أنفق في مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك‏.‏ ومنه أن المامون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وأوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من وهو رطل وثلثان وبسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر والياقوت‏.‏ وقال المأمون حين رآه‏:‏ ‏"‏ قاتل الله أبا نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر‏:‏ كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب وأعد بدار الطبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة وأربعين بغلاً مدة عام كامل ثلاث مرات كل يوم‏.‏ وفني الحطب لليلتين وأوقدوا الجريد يصبون عليه الزيت‏.‏ وأوعز إلى النواتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم‏.‏ وكثير من هذا وأمثاله‏.‏ وكذلك عرس المامون بن ذي النون بطليطلة نقله ابن بسام في كتاب الذخيرة وابن حبان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملة لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم وسذاجتهم‏.‏ ويذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس وقال‏:‏ أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له‏:‏ نعم أيها الأمير شهدث بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة أربعاً على كل واحد وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصائفها‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس‏.‏ وعلم انه لا يستقل بهذه الأبهة‏.‏ وكذلك كان‏.‏ ومن هذا الباب أعطية بني أمية وجوائزهم‏.‏ فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم‏.‏ ثم كانت الجوائز في دولة بني العباس والعبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال وتخوت الثياب وإعداد الخيل بمراكبها‏.‏ وهكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بإفريقية وكذا بنو طغج بمصر وشأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس والموحدين كذلك وشأن زناتة مع الموحدين وهلم جرا تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة‏:‏ فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية وبني العباس وانتقلت حضارة بني أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين وزناتة لهذا العهد وانتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك ثم إلى السلجوقية ثم إلى الترك المماليك بمصر والتتر بالعراقين‏.‏ وعلى قدر عظم الدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف والترف من توابع الثروة والنعمة والثروة والنعمة من توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدولة‏.‏ فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله‏.‏ فاعتبره وتفهمه وتأمله تجده صحيحاً في العمران‏.‏ ‏"‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ‏"‏‏.‏

  الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها

والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف كثر التناسل والولد والعمومية فكثرت العصابة واستكثروا أيضاً من الموالي والصنائع وربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه فازدادوا بهم عدداً إلى عددهم وقوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد‏.‏ فإذا ذهب الجيل الأول والثاني وأخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدولة وتمهيد ملكها لأنهم ليس لهم من الأمر شيء إنما كانوا عيالاً على أهلها ومعونة لها فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب ويتلاشى ولا تبقى الدولة على حالها من القوة‏.‏ واعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام‏.‏ كان عدد العرب كما قلناه لعهد النبوة والخلافة مائة وخمسين ألفاً أو ما يقاربها من مضر وقحطان ولما بلغ الترف مبالغه في الدولة وتوفر نموهم بتوفر النعمة واستكثر الخلفاء من الموالي والصنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه‏.‏ يقال‏:‏ أن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف‏.‏ ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية والقاصية شرقاً وغرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين‏.‏ وقال المسعودي‏:‏ أحصي بنو العباس بن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران وإناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مئتي سنة واعلم أن سببه إلى الرفه والنعيم الذي حصل للدولة وربي فيه أجيالهم وإلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا ولا قريباً منه‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏

  الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار

اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطورلا يكون مثلة في الطور الأخر لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه‏.‏ وحالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار‏:‏ الطور الأول‏:‏ طور الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها‏.‏ فيكون صاحب الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها‏.‏ الطور الثاني‏:‏ طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة‏.‏ ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته المقاسمين له في نسبه الضاربين في الملك بمثل سهمه‏.‏ فهو يدافعهم عن الأمر ويصدهم عن موارده ويردهم على أعقابهم أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد فيركب صعباً من الأمر‏.‏ الطور الثالث‏:‏ طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الأثار وبعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبث المعروف في أهله هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه واعتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكتهم وشاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة‏.‏ وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة‏.‏ لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم بانون لعزهم موضحون الطرق لمن بعدهم‏.‏ الطور الرابع‏:‏ طور القنوع والمسالمة‏.‏ ويكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه سلماً لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلداً للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنهم أبصر بما بنوا من مجده‏.‏ الطور الخامس‏:‏ طور الإسراف والتبذير‏.‏ ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستلفون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسداً لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقده فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون وهادماً لما كانوا يبنون وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخفص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها‏.‏ والله خير الوارثين‏.‏

  الفصل الثامن عشر في أن أثار الدولة كلها

علي نسبة قوتها في أصلها والسبب في ذلك أن الأثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً وعلى قدرها يكون الأثر‏.‏ فمن ذلك مباني الدولة وهياكلها العظيمة‏.‏ فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل والتعاون فيه‏.‏ فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا كان الفعلة كثيرين جداً وحشروا من آفاق الدولة وأقطارها فتم العمل على أعظم هياكله‏.‏ ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصه القرآن عنهما‏.‏ وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه وشرع فيه ثم أدركة العجز وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة‏.‏ فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لاتستطيع أخرى على هدمه هع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين‏.‏ وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الأثار الماثلة للعيان تعلم منه اختلاف الدول في القوة والضعف‏.‏ واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع‏.‏ ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما تجد بين الهياكل والآثار‏.‏ ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس‏.‏ ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وإنها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون أن الحر هو الضوء وأن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك وإذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وإنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له‏.‏ وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا‏.‏ يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنها وإن خربت وجددت لم تزل محافظة على أشكالها ومقادير أبوابها‏.‏ وكيف يكون التفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار‏.‏ وإنما مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون وما يحصل بذلك وبالهندام من الأثار العظيمة فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك‏.‏ وقد زعم المسعودي ونقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم وهو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام المرة ونهاية القوة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة فإن طروء الموت إنما هو بانحلال القوى الطبيعية فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد‏.‏ فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني‏.‏ ونحن نشاهد مساكن الأولين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار والمساكن كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر بيوتاً صغاراً وأبوابها ضيقة‏.‏ وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرقه وقال‏:‏ ‏"‏ لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ‏"‏‏.‏ وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض شرقاً وغرباً‏.‏ والحق ما قررناه‏.‏ ومن آثار الدول أيضاً حالها في الأعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجاج وابن ذي النون وقد مر ذلك كله‏.‏ ومن آثارها أيضاً عطايا الدول وأنها تكون على نسبتها‏.‏ ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم فإن الهمم التي لأهل الدولة تتكون على نسبة قوة ملكهم وغلبهم للناس والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة‏.‏ واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذهب والفضة والأعبد والوصائف عشراً عشراً ومن كرش العنبر واحدة وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب وإنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس وإنما حملة على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب‏.‏ وكان الصنهاجيون بإفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنما يعطونهم المال أحمالاً والكساء تخوتاً مملوءة والحملان نجائب عديدة‏.‏ وفي تاريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة‏.‏ وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم وكانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية والنعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم‏.‏ وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلها على نسبة الدول جارية‏.‏ هذا جوهر الصقلي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال‏.‏ ولا تنتهى اليوم دولة إلى مثل هذا‏.‏ موارد بيت المال ببغداد أيام المأمون وكذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة‏:‏ غلات السواد سبع وعشرون ألف ألف درهم مرتين وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل النجرانية كنكر‏:‏ أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وستمائة ألف درهم‏.‏ كوردجلة‏:‏ عشرون ألف ألف درهم وثمانمائة درهم‏.‏ حلوان‏:‏ أربعة آلاف ألف درهم مرتين وثمانمائة ألف درهم‏.‏ الأهواز‏:‏ خمسة وعشرون ألف درهم مرة ومن السكر ثلاثون ألف رطل‏.‏ فارس‏:‏ سبعة وعشرون ألف ألف درهم ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة ومن الزيت الأسود عشرون ألف رطل‏.‏ كرمان أربعة ألاف ألف درهم مرتين ومائتا ألف درهم ومن المتاع اليماني الخمسمائة ثوب ومن التمر عشرون ألف رطل‏.‏ مكران‏:‏ أربعمائة ألف درهم مرة‏.‏ السند وما يليه‏:‏ أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف درهم ومن العود الهندي مائة وخمسون رطلاً‏.‏ سجستان‏:‏ أربعة ألاف ألف درهم مرتين ومن الثياب المعينة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلاً‏.‏ خراسان‏:‏ ثمانية وعشرون ألف ألف درهم مرتين ومن نقر الفضة ألفا نقرة ومن البراذين أربعة جرجان‏:‏ اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين ومن الأبريسم ألف شقة‏.‏ قومس‏:‏ ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف من نقر الفضة‏.‏ طبرستان والربان ونهاوند‏:‏ ستة ألاف ألف مرتين وثلاثمائة ألف ومن الفرش الطبري ستمائة قطعة ومن الأكسية مائتان ومن الثياب خمسمائة ثوب ومن المناديل ثلاثمائة ومن الجامات ثلاثمائة‏.‏ الري‏:‏ اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين ومن العسل عشرون ألف رطل‏.‏ همدان‏:‏ أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وثلاثمائة ألف ومن رب الرمان ألف رطل ومن العسل اثنا عشر ألف رطل‏.‏ ما بين البصرة والكوفة‏:‏ عشرة ألف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم‏.‏ ماسبذان والدينار‏:‏ أربعة ألاف ألف درهم مرتين‏.‏ شهرزور‏:‏ ستة ألاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم‏.‏ الموصل وما إليها‏:‏ أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرتين ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل‏.‏ أذربيجان‏:‏ أربعة ألاف ألف درهم مرتين‏.‏ الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات‏:‏ أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرتين ومن الرقيق ألف رأس ومن العسل اثنا عشر ألف زق ومن البزاة عشرة ومن الأكسية عشرون‏.‏ أرمينية‏:‏ ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن القسط المحفور عشرون ومن الزقم خمسمائة وثلاثون رطلاً ومن المسايج السور ماهي عشرة ألاف رطل ومن الصونج عشرة آلاف رطل ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون‏.‏ قنسرين‏:‏ أربعمائة ألف دينار ومن الزيت ألف حمل‏.‏ دمشق‏:‏ أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار‏.‏ الأردن‏:‏ سبعة وتسعون ألف دينار‏.‏ فلسطين‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار وعشرة ألاف دينار ومن الزيت ثلاثمائة ألف رطل‏.‏ مصر‏:‏ ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار‏.‏ برقة‏:‏ ألف ألف درهم مرتين‏.‏ إفريقية‏:‏ ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن البسط مائة وعشرون‏.‏ اليمن‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع‏.‏ الحجاز‏:‏ ثلاثمائة ألف دينار‏.‏ انتهى‏.‏ وأما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة ألاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار‏.‏ ورأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة ألاف قنطار وخمسمائة قنطار في كل سنة‏.‏ فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض ولا تنكرن ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات‏.‏ فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر باب بالإنكار وليس ذلك من الصواب فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها‏.‏ ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس وبني أمية والعبيديين وناسبنا الصحيح من ذلك والذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل بالنسبة إليها وجدنا بينها بوناً وهو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها وعمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه ة ولا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة والوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره‏.‏ فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها واعتبر ذلك بما نقضه عليك من هذه الحكاية المستظرفة‏.‏ وذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند وهو السلطان محمد شاه واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض‏.‏ وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان وفرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنه عند رجوعه من سفره في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب أمامه في ذلك الحفل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه وأمثال هذه الحكايات فتناجى الناس بتكذيبه‏.‏ ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه‏.‏ فقال لي الوزير فارس‏:‏ إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن‏.‏ وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المحبس فلما أدرك وعقل سأل عن اللحم الذي كان يتغذى به فقال أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر وكذا في لحم الإبل والبقرة إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر‏.‏ وهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عن قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب‏.‏ فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمناً على نفسه ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته‏.‏ فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه‏.‏ وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حداً بين الواقعات وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء‏.‏ فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه ‏"‏ وقل رب زدني علماً وأنت أرحم الراحمين ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

  الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه

اعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم من يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهمو في سائر مهماته‏.‏ هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه‏.‏ فإذا جاء الطور الثاني وظهر الإستبداد عنهم والإنفراد بالمجد ودافعهم عنه بالراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولاهم دونه فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخص به قرباً واصطناعاً وأولى إيثاراً وجاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم‏.‏ فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذ ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون‏.‏ وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان فيضطغنون عليه ويتربصون به الدوائر ويعود وبال ذلك على الدولة ولا يطمع في برئها من هذا الداء لأن ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها‏.‏ واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف والمهلب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسري وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ونصر بن سيار وأمثالهم من رجالات العرب‏.‏ وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأتامش وباكناك وإبن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه‏.‏ سنة الله في عباده والله تعالى أعلم‏.‏